مقامات بديع الزمان الهمذاني _ المقامة المكفوفية .


حدثنا عيسى بن هشام قال:- كنت أجتاز فى بعض البلاد الأهواز . وقصاراى لفظة شرود أصيدها . وكلمة بليغة استزيدها . فأدانى السير إلى رقعة فسيحة من البلد وإذا هناك قوم مجتمعون على رجل يستمعون إليه وهو يخبط الأرض بعصا على إيقاع لا يختلف وعلمت أن مع الإيقاع لحنا . ولم أبعد لأنال من السماع حظا . أو أسمع من الفصيح لفظا . فما زلت بالنظارة أزحم هذا وأدفع ذاك حتى وصلت إلى الرجل وسرحت الطرف منه إلة حزقة كالقرنبى أعمى مكفوف فى شمله صوف . بدور كالخذروف . متبرنسا بأطول منه معتمدا على عصا فيها جلاجل يخبط الأرض بها على إيقاع غنج . بلحن هزج . وصوت شج . من صدر حرج . وهو يقول:-
يا قوم قد أثقل دينى ظهرى  ***** وطالبتنى طلتى بالمهر .
أصبحت من بعد غنى ووفر   ***** ساكن قفر وحليف فقر .
يا قوم هل بينكم من حر      ***** يعيننى على صروف الدهر .
يا قوم قد عيل لفقرى صبرى ***** وانكشفت عنى ذيول الستر .
وفض ذا الدهر بأيدى البتر   ***** ما كان لى من فضة وتبر .
آوى إلى بيت كقيد شبر      ***** خامل قدر وصغير قدر .
لو ختم الله بخير أمرى        ***** أعقبنى عن عسر بيسر .
هل من فتى فيكم كريم النجر ***** محتسب فى عظيم الأجر .
                       إن لم يكن مغتنما للشكر .
قال عيسى بن هشام:- فرق له والله قلبى . واغرورقت له عينى . فنلته دينارا كان معى . فما لبث أن قال:-
يا حسنها فاقعة صفراء ***** ممشوقة منقوشة قوراء .
يكاد أن يقطر منها الماء ***** قد أثمرتها همة علياء .
نفس فتى يملكه السخاء ***** يصرفه فيه كما يشاء .
يا ذا الذى يعنيه ذا الثناء ***** ما يتقصى قدرك الإطراء .
                 امض إلى الله لك الجزاء .
ورحم الله من شدها فى قرن مثلها . وانسها بأختها . فناله الناس ما نالوه ثم فارقهم وتبعته وعلمت أنه متعام لسرعة ما عرف الدينار . فلما نظمتنا خلوة مددت يمناى إلى يسرى عضديه وقلت:- والله لترينى سرك أو لأكشفن سترك . ففتح عن توأمتى لوز وحدرت لثامه عن وجهه فإذا والله شيخنا أبو الفتح الإسكندرى . فقلت أنت أبو الفتح . فقال: لا:-
أنا أبو قلمون           *****   فى كل لون أكون .
اختر من الكسب دونا  *****  فإن دهرك دون .
زج الزمان بحمق       *****  إن الزمان زبون .
لا تكذبن بعقل         *****    ما العقل إلا الجنون .

تعليقات