مقامات بديع الزمان الهمذانى _ المقامة الجاحظية .


حدثنا عيسى بن هاشم قال: أثارتنى ورفقة وليمة فأجبت إليها للحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دعيت إلى كراع لأجبت . ولو أهدى إلى ذراع لقبلت . فأفضى بنا السير إلى دار:
تركت والحسن تأخذه ***** تنتقى منه وتنتخب .
فانتقت منه طرائفه  ***** واستزادت بعض ما تهب .
قد فرش بساطها . وبسطت أنماطها . ومد سماطها . وقوم قد أخذوا الوقت بين آس مخضود . وورد منضود . ودن مفصود . وناى وعود . فصرنا اليهم وصاروا إلينا . ثم عكفنا علة خوان قد ملئت حياضه . ونورت رياضه . واصطفت جفانه واختلفت ألوانه . فمن حالك بإزائه ناصع . ومن قان تلقاءه فاقع . ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان . وتسفر بين الألوان . وتأخذ وجوه الرغفان . وتفقأ عيون الجفان . وترعى أرض الجيران . وتجول فى القصعة . كالرخ فى الرقعة . يزحم باللقمة اللقمة . ويهزم بالمضغة المضغة . وهو مع ذلك ساكت لا ينبس بحرف . ونحن فى الحديث نجرى معه حتى وقف بنا على ذكر الجاحظ وخطابته . ووصف ابن المقفع وذرابته . ووافق أول الحديث آخر الخوان . وزلنا عن ذلك المكان . فقال الرجل: أين أنتم من الحديث الذى كنتم فيه . فأخذنا فى وصف الجاحظ ولسنه . وحسن سننه فى الفصاحة وسننه . فيما عرفناه . فقال: يا قوم لكل عمل رجال . ولكل مقام مقال . ولكل دار سكان . ولكل زمان جاحظ . ولو انتقدتم . لبطل ما اعتقدتم . فكل كشر له عن ناب الإنكار . وأشم بأنف الإكبار . وضحكت له لأجلب ما عنده وقلت . أفدنا . وزدنا . فقال: إن الجاحظ فى أحد شقى البلاغة يقطف . وفى الآخر يقف . والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره . ولم يزر كلامه بشعره . فهل تروون للجاحظ شعرا رائعا . قلنا: لا . قال: فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات . قليل الإستعارات . قريب العبارات . منقاد لعريان الكلام يستعمله . نفور من معتاصه يهمله . فهل سمعتم له لفظه مصنوعه . أو كلمة غير مسموعة . فقلنا لا . قال: فهل تحب أن تسمع من الكلام ما يخفف عن منكبيك . وينم على ما فى يديك . فقلت: إى والله . قال: فأطلق لى عن خنصرك . بما يعين علة شكرك . فنلته ردائى . فقال:
لعمر الذى ألقى علي ثيابه  ***** لقد حشيت تلك الثياب به مجدا .
فتى قمرته المكرمات رداءه ***** ولا ضربت قدحا ولا نصبت نردا .
أعد نظرا يا من حبانى ثيابه ***** ولا تدع الأيام تهدمنى هدا .
وقل للأولى إن أسفروا أسفروا ضحى ***** وإن طلعوا فى غمه طلعوا سعدا .
صلوا رحم العليا وبلوا لهاتها            ***** فخير الندى ما سح وابله نقدا .
قال عيسى بن هشام: فارتاحت الجماعة إليه . وانثالت الصلاة عليه . وقلت لما تآنسنا: من أين مطلع هذا البدر . فقال:
إسكندرية دارى ***** لو قر فيها قرارى .
لكن ليلى بنجد  ***** وبالحجاز نهارى .

تعليقات